هنري كيسنجر- تفنيد أساطير عراب الدبلوماسية الأمريكية حول الصين

مع رحيل هنري كيسنجر في التاسع والعشرين من نوفمبر/تشرين الثاني لعام 2023، عن عمر مديد يناهز المئة عام، عادت سيرته الحافلة إلى بؤرة الاهتمام مجددًا، وأضحى نبأ وفاته فرصة سانحة لاستحضار إرثه الدبلوماسي الذي أثار لغطًا واسعًا؛ حيث "ملأ الدنيا وشغل الناس"، ولا يزال منذ بروز نجمه في سماء السياسة في أواخر الستينيات، محط استقطاب حاد بين النخب السياسية في الغرب ومختلف أنحاء العالم.
باشر كيسنجر مسيرته المهنية الحكومية بمنصب مرموق كمستشار للأمن القومي، ثم تبوأ منصب وزير الخارجية في عهدي الرئيسين ريتشارد نيكسون، وجيرالد فورد في الفترة الممتدة من عام 1973 حتى عام 1977. وقد شهدت الحقبة التي تولى فيها زمام وزارة الخارجية تحولات سياسية واقتصادية بارزة، تركت بصماتها الواضحة على مسار الدبلوماسية الأميركية.
عرّاب السياسات
لم يكن كيسنجر مجرد مسؤول اعتيادي ينفذ سياسات الإدارات المتعاقبة التي عمل تحت لوائها، بل كان يمثل العرّاب الفعليّ للعديد من السياسات والاستراتيجيات المحورية التي صاغت ملامح السياسة الخارجية الأميركية في فترة الحرب الباردة، حتى لقبه أنصاره بـ "عملاق الدبلوماسية الأميركية"، والشخصية الأكثر نفوذًا في السياسة الخارجية للولايات المتحدة على الإطلاق.
مكنت سياساته الولايات المتحدة من الخروج من مستنقع حرب فيتنام عبر مسار التفاوض الدقيق، ويسرت لها فتح قنوات التواصل البناء مع الصين، وتدشين علاقات دبلوماسية متينة بين واشنطن وبكين. والأمر نفسه فعله في علاقة بلاده مع الاتحاد السوفياتي، حيث نجحت سياساته – بحسب المؤيدين والداعمين له- في احتواء النفوذ الشيوعي المتنامي في مناطق متعددة من العالم، وتقليل حدة التوترات مع القطب السوفياتي المنافس.
في المقابل لهذا الإطراء والاحتفاء الواسع، يحظى سجل كيسنجر وإرثه السياسي بنقد لاذع من قبل خصومه ومعارضيه في أميركا وفي بقية أصقاع المعمورة، حيث كان براغماتيًا متطرفًا، ولم يتردد قط في عقد الصفقات المشبوهة مع الأنظمة الاستبدادية القمعية، وتقويض الديمقراطيات الناشئة.
وإرثه يمثل في نظرهم التجسيد الأشنع لنهج الولايات المتحدة في انتهاج أي وسيلة ممكنة في سبيل تحقيق مصالحها المتضخمة، وفرض نفوذها وهيمنتها في العالم بأسره. ولذلك يصفه منتقدوه بالديكتاتور المتغطرس؛ لارتكابه العديد من الفظائع والجرائم الشنيعة في فيتنام، وكمبوديا، والشيلي، وفي بنغلاديش، وإندونيسيا، وفي مناطق أخرى عديدة.
لسنا هنا في معرض تقييم شامل للأطروحات المتنوعة التي تناولت إرث كيسنجر، بل جل ما نصبو إليه هو توجيه عناية القراء الأفاضل لمقالة الكاتب المرموق جيمس مان، التي نُشرت مؤخرًا في موقع "بوليتيكو" الشهير، تحت عنوان: "الأساطير الستة التي صنعها كيسنجر حول نفسه وكيف وقع الجميع في شراكها". وقد سعى الكاتب من خلالها إلى إلقاء نظرة فاحصة على إرث كيسنجر بمنأى عن ثنائية التبجيل والتمجيد المفرط أو التشهير والذم المطلق.
جيمس مان، صحفي أميركي لامع، أمضى أكثر من عقدين من الزمن في رحاب العمل الصحفي، إضافة إلى كونه مؤرخًا بارزًا نشر العديد من المؤلفات القيمة حول علاقات أميركا بمنطقة الشرق الأوسط والصين، أبرزها كتابه الشهير: "صعود آلهة النار: وزارة حرب بوش".
الجدير بالذكر في مقالته المذكورة أعلاه أنه يقول: إن جانبًا كبيرًا من المقالات التي كُتبت عقب وفاة كيسنجر، سواء كانت مقالات إطراء وتمجيد أو مقالات انتقاد واستياء، استندت في جوهرها إلى المرويات التي دونها كيسنجر بنفسه أو أشاعها عمدًا وسط الأوساط الإعلامية. وأن هذه المرويات – بحسب الكاتب- تتضمن "سلسلة واسعة من القصص والأكاذيب المضللة التي شيّدها كيسنجر بمهارة حول نفسه طوال مسيرته المهنية الحافلة".
تفنيد الأساطير
وينطبق هذا الأمر على وجه الخصوص على إنجازات كيسنجر في ملف الصين المعقد، "فكثير من التبجيل والإشادة الذي حظيت به سيرته -حتى عندما تم الاعتراف بسياساته المدمرة في مناطق مثل فيتنام وكمبوديا – يميل إلى اعتباره رجل الدولة المحنك وصاحب الرؤية الثاقبة ومهندس فكرة الانفتاح التاريخي على الصين".
يشير الكاتب إلى أنه تنبه منذ سنوات مضت لمشكلة مرويات كيسنجر، حينما سنحت له أثناء تأليف بعض كتبه، فرصة ذهبية لتفحص ومعاينة الوثائق السرية التي رفعت عنها المحاكم غطاء السرية بموجب قانون حرية المعلومات، علاوة على مراجعة المذكرات الشخصية الثمينة التي كتبها من عملوا عن كثب مع كيسنجر.
ويعترف الكاتب بـ "أن هذه المصادر الموثوقة التي رجع إليها، تكشف عن قصص عديدة تكاد تختلف بشكل جوهري في بعض الأحيان مع الروايات المثيرة للإطراء التي دونها كيسنجر بنفسه في مذكراته الشخصية المطولة، أو لجأ إلى تمريرها ببراعة عن طريق كتاب أعمدة الرأي الصديقة والموالية له".
وانطلاقًا من هذه الخلفية الصلبة، انخرط الكاتب في مهمة دقيقة أسماها: "وضع الأمور في نصابها الصحيح"، من خلال تفنيد الأساطير الست التي صنعها كيسنجر بمهارة فائقة من أجل الترويج لنفسه على نطاق واسع وخلق هالة من القداسة حول إنجازاته المشكوك فيها.
أولًا: فكرة الانفتاح على الصين لم تكن مبادرة كيسنجر الخالصة
لقد ارتبط اسم كيسنجر في مخيلة الناس على نطاق واسع باعتباره صاحب المبادرة الأصيلة لفكرة الانفتاح على الصين. بيد أن الحقيقة – بحسب الكاتب المتعمق- هي أن الرئيس ريتشارد نيكسون هو من كان بالفعل صاحب المبادرة الحقيقي والمحرك الرئيس وراء تلك الفكرة الجريئة. ولإثبات هذه الفكرة الشائعة الخاطئة، رجع الصحفي جيمس مان إلى مذكرات ألكسندر هيج، الذي عمل نائبًا لكيسنجر في تلك الفترة الحاسمة.
في تلك المذكرات القيّمة، حكى ألكسندر قصة خروج كيسنجر من اجتماع حاسم له مع الرئيس نيكسون، وهو يقول بلسان الحال: " لقد انفصل زعيمنا عن أرض الواقع. إنه يعتقد جازمًا أن هذه هي اللحظة المثالية لإقامة علاقات وثيقة مع الصين الشيوعية. ولقد أمرني للتو بالشروع في تحقيق هذه الرحلة الخيالية بعيدة المنال". وبحسب توصيف هيج لتلك اللحظة الفارقة فقد "وضع كيسنجر رأسه بين يديه وهتف بدهشة واستنكار: "الصين!". ووفقًا لهذه الرواية الموثوقة فإن كيسنجر سخر في بادئ الأمر من فكرة إقامة علاقات وطيدة مع الصين، وهذا يناقض تمامًا الدور التبجيلي الشائع عنه في ملف العلاقات الأميركية الصينية، فهو لم يكن لا مبادرًا ولا متحمسًا للفكرة من الأساس.
ثانيًا: كذب كيسنجر بشأن الجوانب الجوهرية والأكثر أهمية في رحلته السرية إلى الصين
يشير الكاتب المتبحر إلى أن المرويات التي أوردها كيسنجر في مذكراته، ظلت لعقود طويلة تمثل المرجع الرئيس لكافة المعلومات المتعلقة برحلته السرية إلى بكين في عام 1971. ويصف الكاتب كيسنجر بالكذب الصريح فيما أورده في تلك المذكرات، من أن قضية تايوان "لم يتم ذكرها إلا لفترة وجيزة عابرة خلال اجتماعه الأول مع رئيس الوزراء الصيني الراحل، تشو إن لاي".
ويستند جيمس مان في ذلك إلى الوثائق الرسمية المتصلة بهذا الموضوع الشائك، لا سيما محضر لقاء كيسنجر مع تشو إن لاي، الذي رُفعت عنه السرية في عام 2002، حيث ورد فيه بوضوح أن موضوع تايوان الدقيق استغرق الثلث الأول من ذلك اللقاء الهام، على عكس إفادة كيسنجر التي تنص على أن تايوان "بالكاد ذُكرت" في اللقاء.
تنازلات غير مبررة
الأدهى من ذلك، أن كيسنجر – بحسب التفاصيل الجديدة التي وفرتها تلك الوثائق الهامة – قدم خلال ذلك اللقاء الحساس، "تنازلات بالغة الأهمية، ظلت منذ ذلك الوقت وحتى يومنا هذا، تتحكم بشكل كبير في مسار السياسة الأميركية تجاه الصين وتايوان وتعوق تقدمها".
ومن الشواهد الدالة بقوة على ذلك التنازل، أن الموقف الرسمي الثابت للولايات المتحدة، قبل رحلة كيسنجر المثيرة للجدل إلى الصين، كان يعتبر أمر السيادة على تايوان "مسألة غير محسومة وغير واضحة المعالم". إلا أن كيسنجر، في سبيل إنجاح مهمته بأي ثمن "وعد تشو إن لاي بعدم دعم الولايات المتحدة لحكومتين صينيتين موازيتين: (واحدة في بكين، وواحدة في تايبيه)، وأنها لن توافق أيضًا على حل: "صين واحدة وتايوان واحدة"، كما أنها لن تدعم استقلال تايوان على الإطلاق".
يمضي الكاتب في سرد التفاصيل الدقيقة ليتساءل بإنكار واضح عن جدوى تنازلات كيسنجر المعبّر عنها في تلك الوعود الخطيرة، والتي ما زالت تتحكم في الموقف الأميركي من استقلال تايوان حتى يومنا هذا؛ وهل كان يتعين تقديم هذه التنازلات الصارخة في سبيل استمرار مبادرة الانفتاح على الصين؟
يرى الكاتب أن هذا الأمر ما زال غير واضح بما فيه الكفاية حتى الآن، مع أن البعض يعتقد جازمًا أنه لم يكن يستحق على الإطلاق تلك التنازلات الكبيرة. ويضيف أن "علينا أن نتذكر دائمًا أن انفتاح أميركا على الصين كان يعني في المقابل انفتاح الصين على أميركا، لا سيما أن الصين في ذلك الوقت كانت تعيش في فقر مدقع، وفي أجواء صراع عسكري متصاعد مع الاتحاد السوفياتي".
ويخلص الكاتب في نهاية المطاف إلى أن الصين كانت ترغب بشدة في إقامة علاقة جديدة ومثمرة مع الولايات المتحدة. ويبني على هذه الخلاصة الهامة استنتاجًا مفاده أن النظر بأثر رجعي متعمق لمسألة علاقة الولايات المتحدة مع الصين، لا يظهر أي دليل قاطع يؤكد أن كيسنجر كان بحاجة ماسة إلى تقديم مثل هذه التنازلات الكبيرة في ذلك الوقت المبكر من المباحثات الثنائية.
ثالثًا: تعمد كيسنجر إخفاء بعض المهام التي فشلت فيها دبلوماسيته تجاه الصين
يؤكد الكاتب المتخصص على أن كيسنجر ظل بعد تركه العمل الدبلوماسي والسياسي الرسمي داخل الولايات المتحدة منذ عقود طويلة، يُذكر على الدوام في أدبيات الدبلوماسية العالمية باعتباره المهندس الحقيقي لفكرة الانفتاح التاريخي على الصين الذي مهد الطريق بشكل مثالي لزيارة الرئيس ريتشارد نيكسون التاريخية إلى الصين في عام 1972. وهو احتفاء واسع- بحسب الكاتب- يتجاهل عن عمد الإشارة إلى المهام الجوهرية التي أخفقت فيها دبلوماسية كيسنجر المزعومة في الصين.
تصرفات محرجة
عزز الكاتب حجته القوية في هذا الصدد بواقعة هامة حدثت في عام 1995، عندما تمكنت صحيفة "لوس أنجلوس تايمز" المرموقة- التي كان يعمل بها الكاتب في ذلك الوقت- من كسب دعوى قضائية مستحقة بموجب قانون حرية المعلومات، تتيح لها الحصول على دراسة بالغة السرية، أجرتها الأجهزة الاستخباراتية الأميركية الرفيعة حول المفاوضات الأميركية المبكرة مع الصين.
ومن أبرز الجوانب الهامة التي كشفت عنها تلك الدراسة المتعمقة أن نيكسون وكيسنجر كانا يرغبان بشدة في مساعدة الصين لهما في إيجاد تسوية عادلة لحرب فيتنام الطاحنة. وتبين الدراسة بوضوح أنهما بالفعل التمسا في عام 1972، من بكين أن تبذل ما في وسعها من جهود مضنية "لإحضار مسؤول التفاوض البارز في فيتنام الشمالية، لو دوك ثو، إلى الصين بهدف إجراء محادثات مثمرة على الأراضي الصينية خلال رحلة نيكسون التاريخية الحاسمة للصين. غير أن الصين رفضت هذا العرض المغري بشكل قاطع".
أما على مستوى التصرفات السلوكية المحرجة، يكتفي الكاتب بالإشارة العابرة إلى تصريح مقتضب ورد في إحدى الوثائق السرية، ينسب إلى كيسنجر أثناء زيارة نيكسون التاريخية للصين عام 1972، يقول فيه بتهكم: "بعد وجبة عشاء فاخرة من بط بكين الشهي، سأوافق على أي شيء تطلبونه مني".
قد لا يعدو أن يكون هذا التصريح الساخر مجرد مجاملة دبلوماسية عابرة تعبّر عن مدى ارتياح كيسنجر لرحلته إلى الصين، لكن الكاتب يرى أن ذلك التصريح كان بمثابة البداية الحقيقية لـ "افتتان كيسنجر بالصين". ولتأكيد هذا الافتتان المتزايد، ينقل عن إحدى المذكرات السرية للغاية التي أرسلها كيسنجر إلى نيكسون عام 1973، والتي يقول فيها بوضوح: "ربما تكون الصين الآن هي الأقرب إلينا في تصوراتها العالمية. ولا يتمتع أي من زعماء العالم الآخرين بالقدرة الفائقة والخيال الجامح اللذين يتمتع بهما كل من ماو تسي تونغ وتشو إن لاي".
رابعًا: كيسنجر فرض نفسه وسيطًا غير مرغوب فيه للرؤساء وزعماء العالم
لقد ورد في كتابات النعي الكثيرة الإشارة الواضحة إلى أن كيسنجر بعد مغادرته العمل مع الحكومة الأميركية عمل كوسيط دائم بين الولايات المتحدة والدول الأخرى، ولا سيما الصين. ويبدو جليًا أن هذه الفكرة تشير ضمنًا إلى أن المسؤولين الأميركيين الكبار كانوا يطلبون بإلحاح من كيسنجر العمل كوسيط بينهم وبين هذه الدول.
واقعية وحشية
بيد أن من يمعن النظر في سجل كيسنجر الحقيقي، يكتشف بما لا يدع مجالًا للشك أن الأمر لم يكن يتم بتلك الصورة الوردية على الإطلاق، بل على العكس تمامًا، "فقد اعتاد كيسنجر بصفة دائمة أن يفرض نفسه وسيطًا غير مرغوب فيه، دون أن يُطلب منه ذلك من الأساس، وحتى عندما يكون غير مرغوب فيه بتاتًا".
وبحسب الكاتب الخبير فإن تتبع دقيق لتحركات كيسنجر بعد تركه الوظيفة العمومية المرموقة يبيّن بوضوح أنه كان "يسافر من تلقاء نفسه إلى الصين، لأغراض تجارية في الغالب الأعم. وعندما تسنح له فرصة سانحة لعقد لقاءات مثمرة مع القادة الصينيين الكبار، كان يأخذ على عاتقه مسؤولية إخبارهم بكل ما يفكر فيه المسؤولون الأميركيون ويصرحون به علنًا في واشنطن. ثم، عند عودته الميمونة إلى الولايات المتحدة، يذهب مسرعًا إلى البيت الأبيض أو وزارة الخارجية ويتطوع مشكورًا لإخبار المسؤولين الأميركيين بكل ما يدور في بكين من أحداث هامة".
ويذهب الكاتب إلى أبعد من ذلك بكثير، ليقول بجرأة: إن كيسنجر لم يقتصر قط على لعب دور الوسيط المتخفي من وراء الكواليس، وإنما حاول مرارًا وتكرارًا العودة إلى السلطة مجددًا بعد إعفائه من منصبه الرفيع في عام 1976 (أي بعد انتخاب جيمي كارتر رئيسًا للولايات المتحدة).
ففي عام 1980، كان كيسنجر أحد المهندسين الرئيسين لـ "صفقة مؤتمر الحزب الجمهوري، التي تنص على أن يكون الرئيس السابق جيرالد فورد مرشح رونالد ريغان لمنصب نائب الرئيس، على أن يكون كيسنجر بدوره لمنصب وزير الخارجية. غير أن فريق ريغان الانتخابي رفض تلك الصفقة المعقدة بلطف وكياسة. وكرر كيسنجر الأمر المؤسف نفسه في عام 1988، حينما اقترح ببالغ الإصرار على فريق جورج إتش دبليو بوش، "أن يتسلم بزمام الأمور الدبلوماسية السوفياتية المعقدة باعتباره المبعوث الأساس للإدارة الأميركية إلى الرئيس السوفياتي البارز ميخائيل جورباتشوف".
يستنج الكاتب المتمرس – مما سبق ذكره بإسهاب – أن كيسنجر في كثير من الأحيان كان يفرض نفسه كوسيط دائم بدرجة أكبر بكثير مما كان يريده الرؤساء الأميركيون المتعاقبون.
خامسًا: في الشأن الصيني لم يكن كيسنجر واقعيًا كما ادّعى مرارًا وتكرارًا
يوصف كيسنجر عادة بأنه رجل محنك يتبنى منهجًا واقعيًا صارمًا في مجال العلاقات الدولية المتشابكة. ولذلك يعترف الكاتب بإنصاف بأنه قد يكون بالفعل صاحب منهج واقعي ثابت من الناحية الفلسفية النظرية، لا سيما أنه "كرّس مشروعاته الهامة، في أجزاء كثيرة من العالم المضطرب – كما لاحظ منتقدوه بدقة بالغة في تأبينه الأخير – وَفق منهج واقعي عملي صارم، بل ووحشي في بعض الأحيان".
غير أن من يتأمل مليًا حصيلة أعمال كيسنجر المثيرة للجدل فيما يتعلق بالصين، يجد جليًا أنه كان رومانسيًا حالمًا أكثر بكثير مما كان واقعيًا وعقلانيًا. ويستحضر الكاتب في هذا السياق معلومة هامة وردت في إحدى مذكرات كيسنجر الخاصة التي أرسلها سرًا إلى نيكسون بشأن الصين، والتي كتبها بعد زيارة قام بها إلى بكين عام 1973، والتقى خلالها بالزعيم الصيني الأسطوري ماو تسي تونغ، حيث كتب يقول بعبارات مؤثرة: إن شخصية ماو "تشع بهالة قوية من السلطة والنفوذ والحكمة العميقة… لقد تأثرت كثيرًا بعظمة هذا الرجل الفذ هذه المرة أكثر من المرة الماضية. ويمكن للمرء أن يتخيل بسهولة بالغة قوة وذكاء هذا الرجل النادر في مقتبل عمره ". وبحسب الكاتب المتابع، لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يصدر مثل هذا التقييم الإيجابي عن رجل واقعي متمرس.
سادسًا: ساهمت إفادات كيسنجر المتحيزة في تضخيم دوره المبالغ فيه في الدبلوماسية مع الصين
لقد أشارت التقارير الإعلامية قبيل وفاة كيسنجر إلى أنه لعب دورًا هامًا في رفع فتيل التوتر الحاد بين إدارة بايدن الحالية والصين. وأضافت تلك التقارير المغرضة أن الاتصالات الرفيعة المستوى التي شهدها البلدان في الآونة الأخيرة قد حدثت كنتيجة مباشرة لزيارة خاصة قام بها كيسنجر إلى بكين. ومرة أخرى، تثبت الوقائع الملموسة خلاف ذلك تمامًا. فإذا كان كيسنجر قد سافر بالفعل إلى الصين في منتصف شهر يوليو/تموز الماضي، فإن إدارة بايدن كانت قد سبقت أن أرسلت وزير الخارجية القدير أنتوني بلينكن ووزيرة الخزانة المحنكة، جانيت يلين إلى بكين، وكانت المباحثات السرية جارية بالفعل لترتيب زيارة مرتقبة للزعيم الصيني المحنك، شي جين بينغ، إلى الولايات المتحدة في شهر نوفمبر/تشرين الثاني القادم. وبالتالي، لم يلعب كيسنجر بأي حال من الأحوال أيَّ دور يذكر في هذه المسألة الدبلوماسية المعقدة.
